لا تزال قطر تعتبر الصومال ساحة مواتية لممارسة ألاعيبها التي تمكنها من السيطرة على مفاتيح القرار فيها، على جانبي الحكومة والتنظيمات الإرهابية. وهي اللعبة المزدوجة التي تجيدها لضمان وجودها وتأثيرها على مجريات الأحداث. وكلما واجهت إخفاقا سعت إلى تجديد الدماء من خلال تغيير أدواتها وخططها حتى أصبح خطابها حافلا بالتناقضات، الأمر الذي لا يعنيها وتتعمد تجاهله طالما يحقق أغراضها.
آخر فصول الفضائح التي تلاحق الدوحة ولا تثنيها عن توجهاتها السلبية في الصومال، الاتهامات التي وجهها أحمد مدوبي رئيس ولاية جوبالاند لقطر بأنها تدعم زعزعة الاستقرار في بلاده، وتصر على المضي قدما في تغذية التوترات في بلد يعاني من ويلات الصراعات منذ عقود، وتتمسك بـأن تكون النزاعات والتوترات مدخلا لتكريس التسلل في مفاصل دولة مفككة أصلا.
وقال مدوبي، في كلمة ألقاها الخميس، بمناسبة افتتاح الدورة الثانية لجلسات البرلمان الإقليمي في الولاية، إن "استمرار قطر وتركيا في إرسال الأموال إلى الحكومة الفيدرالية يستهدف زعزعة الاستقرار، لأن القيادة الصومالية لا تختلف عن حركة الشباب الإرهابية التي تقتل كل من يختلف معها، بينما رؤساء المؤسسات يعلنون الحرب على جميع معارضيهم".
لفت الرجل النظر إلى أن الحكومة الفيدرالية أوقفت الحرب على حركة الشباب والتنظيمات الإرهابية المتناغمة معها، وتفرغت لتدمير الولايات الإقليمية مستخدمة في ذلك المال والسلاح. وعلى الدوحة وأنقرة أن تتوقفا عن الدعم المالي والعسكري المستخدم في التدمير.
ما يعزز خطورة الوضع أن وزير الإعلام الصومالي السابق طاهر محمود غيلي قال في تصريحات صحافية الأحد، إن الصراع القائم بين الحكومة وجوبالاند، يقود إلى تفجير حروب أهلية تجر البلاد إلى أزمات أكثر تعقيدا، داعيا إلى حل الخلافات على مائدة المفاوضات، ومضيفا ان "غير معقول أن تقوم الحكومة بنقل الجنود بالطائرات إلى أقليم غذو (التابع لولاية جوبالاند)، في وقت تعجز فيه عن تأمين طرق العاصمة مقديشو".
تزايدت الاتهامات لكل من قطر وتركيا بتبني توجهات من شأنها مضاعفة جراح الصومال، حيث حولتا جزءا من أراضيه إلى ساحة لتصفية الحسابات، وبؤرة لتجميع العناصر الإرهابية وتوجيهها وفقا لبوصلة تلبي أطماعهما.
ولم تعد التصرفات القطرية خافية على المتابعين للشأن الصومالي، على خلاف الممارسات التركية التي تحاول التستر ومداراة أدوارها المختلفة. وتجاوزت تحركات الدوحة حدود مقديشو وبدأت تتوغل في بعض الأقاليم المستقرة نسبيا.
تٌتهم قطر بأنها العقل المدبر للصراع القائم بين مقديشو وعدد من الولايات التي تتخذ موقفا مناهضا من إصرار الرئيس محمد عبدالله فرماجو على الوقوف في صف الدوحة ضد دول المقاطعة الرئيسية (مصر والسعودية والإمارات والبحرين)، حيث تدعم قطر الحكومة المركزية بالمال والسلاح لتأجيج التوترات داخل بعض الولايات، وعلى رأسها جوبالاند، لإسقاط حكمها، ومنح الفرصة للتنظيمات المتشددة لترميم صفوفها.
تساند الدوحة موقف فرماجو في عودة نظام الحكومة المركزية الموحدة، بحيث تكون جميع الولايات تحت سلطته، بما يمكّن الدوحة من بسط نفوذها على أماكن وأقاليم حيوية ذات أبعاد إستراتيجية سوف تحقق لها منافع سياسية واقتصادية وتوفر لها فرصة لضرب مصالح قوى إقليمية منافسة، وترى أن تشتت الحكم بين الولايات واستمرار وجود حكام أقاليم مناوئين يقطع الطريق على مطامعها في الهيمنة على منطقة القرن الأفريقي.
تعتبر جوبالاند من أهم مناطق الصومال بسبب موقعها الجغرافي المطل على المحيط الهندي، ويمر فيها نهر جوبا، كأكبر الأنهار في البلاد، وتتألف من ثلاث محافظات، الأولى غذو التي تقع في المثلث الحدودي وهي معبر تجاري مهم يربط الصومال بكينيا وإثيوبيا، ومحافظتي جوبا الوسطى والسفلى الغنيتين بالثروات الطبيعية، وتضم الأخيرة ميناء كسمايو الذي يستقبل الكثير من البضائع الخارجية.
يقول علي بركة، الباحث السياسي المتخصص في الشؤون الأفريقية بالقاهرة، في تصريح لصحيفة العرب الصادرة في لندن، إن سياسة قطر في دعم التوتر الأمني والسياسي بالقرن الأفريقي تصر على التمسك بوتر تمويل التنظيمات المتطرفة الموالية لها كي تصبح مسيطرة على زمام الأمور وتنفيذ أجندة الدوحة بشكل محكم. وإذا فشلت تتجه إلى زيادة الدعم الموجه للحكومة كي تقوم بالتدخل العسكري لتشتيت قوى الولاية بذريعة مساندة الحكم المركزي وإحكام القبضة على الولاية، وهنا تجد التنظيمات المتطرفة منفذا للتسلسل مرة أخرى، وتدوير نفسها.
تزامنت اتهامات جوبالاند لقطر أخيرا مع تصاعد وتيرة الصراع مع الحكومة المركزية ووصول الأوضاع إلى حافة الحرب وعدم قدرة بعض الوسطاء على التسوية، الأمر الذي تستثمره الدوحة لمنع فرص إنهاء النزاع بالحوار بعدما تمكنت التنظيمات المتطرفة التي تدعمها في الولاية من القيام بدور يضاعف حظوظها في التأثير.
اعتادت قطر، التحكم في أوجه صرف الأموال التي تقدمها للحكومة الفيدرالية، ويتم حرمان الولايات المعارضة لتدخلاتها، على رأسها جوبالاند، لأن أحد أوجه الخلاف بين الإقليم والرئيس فرماجو، يكمن في عدم وصول جزء من المساعدات التي يحصل عليها إلى المناطق المناوئة له أو التي أخفق في زرع موالين له فيها.
حاولت غرفة التجارة والصناعة القطرية أكثر من مرة إبرام عقود مع مستثمرين في الولاية بحجة تقوية البنية التحتية لمدينة كيسمايو، والاستثمار في مشروعات الكهرباء وإعادة مشروع خزانات المياه من نهر جوبا وتوصيلها إلى كيسمايو، وبحث إقامة مشاريع سياحية خاصة في الجزر الثلاث في المحيط الهندي بالقرب من جوبالاند.
ويرى مراقبون ان إصرار الدوحة على توسيع نفوذها من خلال زعزعة الأمن وتقوية شوكة الجماعات المتطرفة الموالية يجعلها في عداء مع ولاية جوبالاند التي نجحت في تقويض هذا السيناريو، وهي الولاية التي لها دور معتبر في الكثير من الأمور التي تجري في مقديشو.
منذ انتخاب أحمد مدوبي رئيسا للإقليم ثم التجديد له في سبتمبر/ايلول، يتمتّع الإقليم باستقرار أمني، حيث أقام حاكمه نظاما مكّن قوات الأمن من إحباط هجمات عديدة لحركة الشباب، ومنع تسلل عناصرها إلى الإقليم لشن هجمات أو اغتيال شخصيات سياسية.
ويشير علي بركة، إلى أن التصعيد من جانب الحكومة المركزية تجاه جوبالاند يرتبط بشكل وثيق بسيطرة شبه كاملة من جانب قطر على مفاصل الجهاز الأمني في مقديشو، بعدما نجحت في زرع موالين لها، على رأسهم فهد ياسين مراسل الجزيرة السابق الذي أصبح رئيسا للاستخبارات ويدير كثير من الأجهزة الأمنية، بحكم المرسوم الرئاسي الذي صدر في 2018 بإلحاق جهاز الشرطة بالاستخبارات العامة.
أبرمت الاستخبارات الصومالية مع نظيرتها القطرية اتفاقية توأمة في سبتمبر الماضي، عندما قام نائب رئيس جهاز المخابرات القطري عبدالله مبارك بزيارة إلى مقديشو، التقي خلالها فهد ياسين، واتفقا على التنسيق الكامل فيما يخص العمليات الاستخباراتية. وبعد أيام قليلة من الزيارة اعتقلت أجهزة الأمن عبدالرشيد حسن نور وزير الأمن في ولاية جوبالاند.
يبرهن سعي الدوحة للتخلص من رأس النظام الأمني في جوبالاند على استثمار نفوذها داخل جهاز الاستخبارات الصومالي، وأنها لا ترغب في استمرار الهدوء بالولاية، وتريد أن تكون الكلمة العليا لأصحاب التنظيمات المتطرفة التي تنفذ الأجندة القطرية. وغياب هؤلاء عن المشهد يعني أنها لن يكون لها حضور مؤثر في مسارات الإقليم، بحكم أنها اعتادت التعامل بسياسة "ما لا أحصل عليه من الحكومة، أحصل عليه من المسلحين الموالين".
تتهم أحزاب معارضة الرئيس فرماجو بأنه ترك المساحة لحركة الشباب الإرهابية للسيطرة على مفاصل الدولة ويتفرغ للدخول في صراعات ومعارك مع ولايات غير موالية له لتحقيق أغراض سياسية مستقبلية مرتبطة بالانتخابات المقبلة، ووصل الأمر أن الحركة تقوم بفرض ضرائب على السكان والتجار في الأسواق وجمعها بالقوة، وفرض الإتاوات على الطرق وسائقي الشاحنات في العاصمة مقديشو.
ليس من المستبعد أن يكون وراء تأجيج التوتر في جوبالاند تخطيط قطري لتبرير تقديم المزيد من الدعم المالي والعسكري لفرماجو للسيطرة على الإقليم قبل موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية المقرر لها مطلع العام المقبل، لما تشكله هذه الولاية من أهمية في تحديد مستقبل الحكم في مقديشو.
ويعاني فرماجو من تداعيات اتساع دائرة المعارضة ضده من جانب بعض الأحزاب والقوى المدنية ونجاح أقاليم عدة في تكريس حكمها الذاتي، وحشد القبائل والعشائر وإشراكها في فرض الاستقرار ومطاردة العناصر الإرهابية من المنطقة.
بدأت تفكر قطر في مستقبل وجودها بالصومال المرتبط باستمرار فرماجو على رأس السلطة، وتعتقد أن تأخره في إحكام قبضته على أقاليم حيوية مثل جوبالاند وبونتلاند وصوماليلاند وعدم استقطاب موالين له فيها يعجّل بخسارته الانتخابات، إذا أقيمت في موعدها.
تعليق